هيرو-غزة!
 

ابراهيم الحكيم

إبراهيم الحكيم / لا ميديا -
تبرز حقائق مهمة يجب أن تذكر، ومعلومات قيمة يجب أن تشهر، عن جريمة القرن الماضي: إلقاء قنبلتين ذريتين على اليابان، وجريمة القرن الجاري: حرب الإبادة الجماعية للفلسطينيين في غزة. هناك تشابه كبير في الخلفيات، على نحو مثير في المجريات، يجعلنا أمام تطابق في الغاية والوسيلة، مع اختلاف كبير في النتيجة.
تستحق جريمة القصف الأمريكية لليابان، في ذكراها الثمانين، أن تجد من يشير إليها، ليعلم الجميع كم أن جريمة تحالف الشر العالمي «الانجلو-صهيوني» بقيادة الولايات المتحدة أشنع وأبشع في فلسطين طوال ثمانين عاماً من الاحتلال والإبادة، وكم أن غزة أشجع وأقوى من إمبراطورية اليابان بما لا يقاس.
تكاد جرائم الإبادة في غزة، اليوم، أن تفوق، في الأبعاد والأهداف والوسائل والأدوات، جريمة الإبادة الجماعية في اليابان، المرتكبة في آب/ أغسطس 1945. مرتكب الجريمتين والراعي لهما واحد، يتمثل في إمبراطورية الشر العالمي الأمريكية، التي استهلت جرائمها بإبادة شعب الهنود الحمر.
يمكن اختزال التشابه بين جريمتي إبادة غزة وإبادة مدينتي هيروشيما وناجازاكي، بالنظر أولاً إلى الخلفيات. كانت إمبراطورية أمريكا، في بداية وراثتها إمبراطورية بريطانيا، على هرم الإمبريالية العالمية، وتسعى إلى فرض هيمنتها على العالم، ونشر نفوذها على دوله ومقدراتها وثروات شعوبها وأسواقها...
ظلت إمبراطورية أمريكا منذ بداية الحرب تقدم الدعم والإمدادات لدول الحلفاء ضد دول المحور، وتدعم الصين بحربها مع اليابان، وتسعى للحد من التوسع الياباني، وفرضت حصاراً اقتصادياً خانقاً على اليابان، منذ تموز/ يوليو 1939، يشمل حظر شحنات الوقود والمواد الحيوية إلى اليابان، التي لا تملك نفطاً.
دخلت اليابان في مفاوضات مع الولايات المتحدة لإعادة تفعيل معاهدة التجارة والملاحة مع اليابان التي ألغتها واشنطن، وإنهاء حظر الصادرات وشحنات الوقود إلى اليابان، وتجميد واشنطن الأصول اليابانية، واستمرت طوكيو في المفاوضات حتى خريف العام 1941 من دون جدوى.
لجأت اليابان إلى هجوم عسكري مباغت وواسع يشبه «طوفان الأقصى»، ونفذت القوات الجوية والبحرية اليابانية يوم الأحد 7 كانون الأول/ ديسمبر 1941 هجوماً كاسحاً على قاعدة بيرل هاربر (ميناء اللؤلؤ) في جزيرة هاواي، المقر الرئيسي للأسطول الحربي البحري الأمريكي في المحيط الهادئ.
فوجئت إمبراطورية أمريكا بتنفيذ اليابان هجوماً على بعد 6400 كم «كان بمثابة ضربة وقائية، لإبعاد الأسطول الأمريكي في المحيط الهادئ عن الحرب في جنوب شرق آسيا بين اليابان وبريطانيا وهولندا وحليفتهما الولايات المتحدة»، ونجح في تدمير 21 سفينة حربية، و200 طائرة أمريكية، وشل الأسطول الأمريكي.
سقط في صفوف الجيش الأمريكي 2400 قتيلاً و1282 جريحاً، مقابل تحطم 29 طائرة وغرق 4 غواصات ومقتل وإصابة 65 جندياً لليابان. وشن اليابانيون هجمات أخرى ضد القواعد الأمريكية والبريطانية في الفلبين، وغوام، جزيرة ميدواي، جزيرة ويك، ومالايا، وهونغ كونغ، ليصبحوا «أسياد المحيط الهادئ».
الهجوم الياباني الاستباقي اضطر الولايات المتحدة إلى الإشهار رسميا عن مشاركتها في الحرب العالمية الثانية، بعد ساعة على هجوم «بيرل هاربر» في هاواي التي احتلتها عام 1887، وإعلانها رسمياً الحرب على اليابان وحلفائها في دول المحور (ألمانيا وإيطاليا)، ورد الأخيريتين  بإعلان حرب مماثل.
عقب الهجوم «احتجزت الولايات المتحدة 120 ألف ياباني أمريكي و11 ألف ألماني أمريكي و3000 إيطالي أمريكي». ودخلت بكل قوتها في مجريات الحرب العالمية الثانية في المحيط الهادئ والأطلسي ومسرح الحرب الأوروبي، ونفذت مئات الغارات الجوية على اليابان لم تحرز تأثيراً فعلياً على قوتها.
غيرت إمبراطورية أمريكا خطتها، وانتقلت بداية العام 1945 من إلقاء القنابل شديدة التفجير إلى إلقاء آلاف الأطنان من قنابل شديدة الاحتراق ونصف مليون أسطوانة من النابالم والفوسفور الأبيض لإحراق أكبر قدر من المباني اليابانية الخشبية، وأحرقت آلاف المنازل والمرافق والمعامل والمصانع.
لكن هذا الدمار لم يشفِ غليل الولايات المتحدة، فنفذت في شباط/ فبراير 1945 هجوماً برياً وجوياً وبحرياً على جزيرة الكبريت «إيوا جيما» بمشاركة 70 ألف جندي، قتل وجرح منهم 25 ألفاً. وشنت 179 طائرة قاذفة قنابل (B-29) بداية آب/ أغسطس 1945 غارات بالقنابل الحارقة على مدينة  «توياما» الصناعية، أحرقت 99% منها.
وفقاً لمعظم التقديرات قتل الانفجار فوراً نحو 70 ألف شخص، وارتفع العدد بنهاية العام 1945 إلى ما بين 90-140 ألفاً، نتيجة الحروق والإشعاعات والأمراض ذات صلة، والآثار التي تفاقمت بسبب نقص الموارد الطبية، بينما تشير تقديرات أخرى إلى وفاة 200 ألف شخص بحلول عام 1950.
أدى قصف هيروشيما بقنبلة «ليتل بوي» (الولد الصغير) الذرية، إلى هروب الناجين إلى «ناجازاكي» المجاورة، حيث تعرضوا للقصف بعد ثلاثة أيام، بقنبلة ذرية سمَّتها أمريكا «فات مان» (الرجل البدين)، وقتلت 40 – 75 ألف شخص، بينهم أسرى حرب للحلفاء، وارتفع العدد بنهاية العام 1945 إلى 80 ألف شخص.
لم يدمر القصف الأمريكي لليابان أي هدف عسكري، باستثناء مصنعين للسلاح. فقد كان الهدف من استخدام هذا السلاح هو «إحداث الدمار ونشر الرعب بين الشعب الياباني وإرغام إمبراطورية اليابان على الاستسلام لدول الحلفاء من دون شروط، وفق إنذار بوتسدام الذي يطالبها بالاستسلام» حسب الرئيس ترومان.
نجحت أمريكا في هدفها، وأمر الإمبراطور الياباني، هيروهيتو كيدو، «بالسيطرة على الموقف بسرعة... لأن الاتحاد السوفييتي قد أعلن الحرب علينا»، وعقد مؤتمراً إمبراطورياً، وكلَّف الوزير توجو بإخطار الحلفاء بأن اليابان ستقبل شروطهم بشرط واحد: «ألا يشمل الإعلان إلغاء صلاحيات جلالة الإمبراطور».
كانت النتيجة أن استسلمت اليابان رسمياً بعد 24 يوماً فقط، ووقعت صك الاستسلام في 2 أيلول/ سبتمبر 1945، متضمناً الاعتراف بسيادة الحلفاء، والتخلي عن تايوان وكوريا وجزر أخرى، ونزع سلاح الجيش الياباني وتسليمه للحلفاء، والموافقة على محاكمات مجرمي الحرب، والسماح بقوات احتلال الحلفاء لليابان.
تبع ذلك استسلام قوات الجيش الياباني بالكامل لدول الحلفاء، وإخضاع اليابان لاحتلال مباشر من قوات الحلفاء بقيادة أمريكا، استمر حتى توقيع معاهدة مع الحلفاء في سان فرانسيسكو (8 أيلول/ سبتمبر 1951) دخلت حيز التنفيذ في 28 نيسان/ أبريل 1952، بعد فرض «تغييرات سياسية واجتماعية واسعة النطاق في اليابان».
تضمنت المعاهدة إلزام اليابان باستقبال قواعد عسكرية يبلغ عددها اليوم «120 قاعدة عسكرية أمريكية ينتشر فيها حوالى 50 ألف عسكري»، و»تتوزع على مناطق مختلفة من اليابان، وتقوم بمهام متنوعة»، بما فيها «تعاون الولايات المتحدة مع السلطات اليابانية في التحقيقات، رغم اعتراض السلطات اليابانية، غالباً».
يبرز هنا الفارق في النتيجة بين جريمة إمبراطورية الشر الأمريكية في اليابان، وجرائمها المتواصلة بدعمها الكامل للاحتلال في فلسطين وبصورة أكبر خلال العامين الماضيين في قطاع غزة. فقد استخدم الكيان الصهيوني في عدوانه على غزة «قرابة 100 ألف طن من القنابل المحرمة دولياً، تفوق حجم وقوة القنبلة الذرية بثمانية أضعاف» وفق وكالات أنباء دولية، بينها «شبكة القدس الإخبارية».
دمرت قوات الاحتلال «الإسرائيلي»، منذ بدء عدوانها وحصارها على قطاع غزة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، مئات الآلاف من المباني والمرافق الخدمية والمنازل، وقتلت وجرحت 210 آلاف مدني، وشردت قرابة 350 ألفاً من أصل مليوني فلسطيني محاصرين في غزة.
لكن غزة رغم حرب الإبادة الجماعية وحرب التجويع، لم تعلن استسلامها، ولم تخضع مقاومتها للاحتلال الصهيوني.
ذلك الفرق الأبرز بين جريمتي هيروشيما وناجازاكي في اليابان، وجريمة الإبادة الجماعية في غزة؛ أن شعب غزة أشجع وأقوى؛ ما يزال صامداً طوال 22 شهراً (سنتين إلا شهرين) هي عمر هذا العدوان الصهيوني وحصاره المتواصلين، ضمن ملحمة كفاح ونضال وصمود تمتد لأكثر من 77 عاماً. ولا أشجع من الفلسطينيين في غزة إلا اليمنيون الذين لم يأبهوا لقنابل تحالف العدوان.
لا يجاري شجاعة الشعب الفلسطيني، الذي قهر أقوى القنابل إرعاباً وفتكاً وتدميراً على مستوى العالم، سوى شجاعة الشعب اليمني، حين لم يكترث لقنابل تحالف العدوان الأمريكي - الصهيوني بواجهته السعودية - الإماراتية (2015-2022)، ثم بواجهته المباشرة الأمريكية - البريطانية - الصهيونية (2023 - 2025)، وما يزال صامداً ويواجه -بقوة- العدوان عليه وعلى قطاع غزة، بكل ما يستطيع.

أترك تعليقاً

التعليقات